لم يدرِ كَمْ مَرَّ من الوقت لكي يعود إلى أرض الواقع ويتذكر أن أيام زوجته معدودة وأنها غائبة عن الوعي وربما كان حوارهما ليلة الأحد الماضي آخر حوار له معها..
جلس على مقعد في قاعة الانتظار وقلبه يعتصر ألماً لما يحدث لـ «زهرة»… زهرة حياته التي بدأت تذبل أمام عينيه منذ شهور ولم يكن يأبه لذلك..
كانت امرأة صبورة جداً، قاست معه الأمرّين، لم تثقل كاهله بالطلبات… لأنها – وبكل بساطة – اعتادت أن يرد طلبها في كل مرة… ففكرت في مشروع لكي تعول أطفالها الأربعة وتجتنب ذل السؤال حتى لزوجها…!
اقتنت آلة خياطة سددت ثمنها بالتقسيط الممل.. سهرت كل ليلة على حياكة كل شيء وأي شيء لكي يتمكن أولادها من العيش بكرامة ويدرسوا ويستروا عوراتهم… وتذَكّر أنها لم تكن تجلس للخياطة إلا بعد أن تقوم بواجباتها المنزلية وواجباتها نحو الأولاد ونحوه أيضاً…
ما طلبتْ منه إلا طلباً واحداً… وكم استثقل طلبها ورفض حتى التفكير بتحقيقه… بإصرار!!
اغرورقت عيناه مرة أخرى حينما تذكّر أنه كان دائم الصياح بها كلما سمع ضوضاء الأطفال أو تأخرت في تلبية طلب من طلباته… في حين أنه كان مجحفاً لحقوقها ومتجاهلاً لآلامها…
حتى لما بدأت في الشحوب والضمور والسعال، كان يوبخها ويقول لها: هذه نتيجة جلوسكِ على آلة الخياطة المشؤومة…
لم يكن سعيد مستعداً لينسى ليلة زفافه من زهرة…
لم يكن زواجه سوى تلبية لطلب مُلحٍّ من أمه المريضة التي أرادت تزويجه قبل أن تفارق الحياة..
فكان أن طلب منها أن تختار من تراها مناسبة له، ووقع اختيار الأم على زهرة…
وتذكّر بمرارة كبيرة أنه عاملها بجفاء… كأنها فُرضت عليه فرضاً وجاءت لتقيّد حياته وتحرمه من سهراته مع رفاقه حتى الصباح…
أراد بكل ما أوتي من قوة أن يوقف شريط ذكرياته معها لأنها تزيد من إحساسه بالذنب وتغرس في قلبه جراحاً لم يكن يعتقد في يوم من الأيام أنها ستُفتح في داخله ولن يتمكن من إيقاف نزيفها…
ولكن… أبت صور الماضي -الذي لا يحتفظ له بصورة جميلة معها -إلا أن تفرض وجودها وتمر أمامه رغم أنفه…
وكانت صورة اعتناء زهرة بأمه حتى وافتها المنية وحرصها على راحتها والعلاقة الوطيدة التي جمعتهما إلى آخر رمق بأمه من أبهى الصور التي لن تفارق مخيلته، فأمه توفيت وهي راضية عن زهرة كل الرضا… ماتت وهي تحث ابنها أن يهتم بزوجته كما يجب ولا يحرمها حقوقها… ولكن لا حياة لمن تنادي…
أما أبناؤه، فكانت دائمة الاهتمام بهم، حريصة على أن يطيعوا والدهم.. كم مرة تفاجأ بها تخترع لهم قصصاً من نسج خيالها عن طيبته وبطولاته!!
لم تيأس أبداً من تمكنها في يوم من الأيام من جعل زوجها يعود من عالم البطش واللامسؤولية إلى عالم الطيبة والتعامل الحسن وتحمّل أعباء الحياة…
ولكنها الآن تحتضر ولا شيء من هذا حدث… فاسودّت الدنيا في عينيه وأحسّ بدوار، وتمنى لو يغيب عن الوعي، ولا يعود إلى الدنيا أبداً.. تمنى لو تنشق الأرض وتبتلعه ويهرب من حسرة العمر هذه… ولكن هيهات أن يتأتى له ذلك.. أحس فجأة أنه لم يعد يمتلك من السعادة إلا ربما ما يحمله اسمه… «سعيد»، وأن فرصة سعادته الحقيقية تركها تمر أمام عينيه لسنين عديدة ولم يُعِرْها انتباهاً… حقاً لا تعرف قيمة الشيء أو الشخص إلا عند فقدانه…
ثم عادت الصور إلى مخيلته و هي ترعاه في مرضه… لا تفارقه إلا للضرورة القصوى.. تحاول إعداد ما يحبه من الطعام… تطعمه بنفسها… لا تتركه حتى تعود له صحته وعافيته… ثم تذكر كم كانت قسمات وجهها تعبر عما يختلج في صدرها من ألم لمرضه، وكم كانت ترسم من علامات الفرح والسرور لتماثله للشفاء…
في الليلة التي فقدت فيها الوعي… كان يغطي أذنيه بالوسادة وهو على فراشه لئلا يسمع صوت سعالها أو صوت آلة الخياطة التي لم تستطع أذناه أن تستسيغه رغم مرور سنين عديدة وهو يخرم طبلة أذنيه…
ولو لم يكن مضطراً للقيام لدخول الخلاء لما تمكن من رؤية المنظر الذي قد انطبع في ذاكرته إلى الأبد… منظر زوجته وهي ملقاة على الأرض وأنفاسها متسارعة وبجانبها بركة من الدماء…. أخذ سعيد نفساً عميقاً من سيجارته التي أدخلها بصعوبة بواسطة إصبعين يرتجفان من التوتر والألم…
فجأة انتفض واقفاً ورمى بسيجارته تحت قدميه وسحقها سحقاً ثم صاح بمنتهى الغيظ: «يا ويلي، يا ويلي، لقد كانت زهرة تطلب مني طلباً واحداً لا غير… كانت تطلب مني أن أتوقف عن التدخين كي لا أمرض… ولكنني قتلتُها… قتلتُها…سجائري هي التي قتلتْها…».
وبدأ يضرب بيديه ورجليه حائط قاعة الانتظار…
وغاب عن الوعي…