زمان.. زمان “خالص” حكيت لكم حكاية الشيخين اللذين مرا بجماعة يلطمون الخدود ويشقون الجيوب ويحثون التراب علي رءوسهم حزناً علي ميت لهم.. فترك أحد الشيخين رفيقه واندفع نحو اللاطمين الراقصين حزناً وراح يقول بأعلي صوته: يا عالم.. يا هووه.. حرام عليكم.. يا ناس اسمعوني.. اتقوا الله.. عودوا إلي صوابكم.. يا غجر يا أولاد الكلب.. يا كفرة.. لكن هيهات.. ضاع صوته في الزحام.. لم يستمع إليه أحد ولم يكف اللاطمون عن لطمهم.. وعاد الرجل خائباً وقد اكتسب إثماً لأنه لما زهق قال: يا غجر.. يا أولاد الكلب.. يا كفرة.
واندفع الشيخ الثاني إلي الجموع اللاطمة.. ولم يقل شيئاً لكنه خلع عمامته وقفطانه وظل بملابسه الداخلية وراح يلطم معهم ويحثو التراب علي رأسه فتوقف اللاطمون عما هم فيه وبدت عليهم الدهشة والذهول من ذلك العالم الجليل الذي يلطم ويولول معهم.. وراحوا يتحلقون حوله يسألونه عن خبره فاستغفر الله مما فعل وبدأ يعظهم ويدعوهم إلي الهدي.. ولم تقل الحكاية شيئا عن النتيجة.. وهل أفلح الشيخ بحيلته في هداية هؤلاء أم عادوا إلي لطمهم من جديد؟ومازلت أسأل ولا أجد جوابا.. ما جدوي أن نتكلم بلا سامعين..؟ وما جدوي أن نكتب بلا قراء؟ وما معني الاذان في مالطا؟ وهل يكفي أن تقول الحق أم ينبغي أن يكون حقك مزوقاً وأن تبحث عن سبل للفت الأنظار إليك؟.. هل يجوز أن ندعو إلي الحق بالباطل وأن نحض علي الحلال بالحرام وإن يركب الخير حمار الشر ليصل؟ قلت لكم أن أي صاحب رسالة أو دعوة لابد أن يعتمد علي فضيلة الدهشة والذهول لدي الناس.. لابد أن يثير لديهم العجب والاستغراب.. لكن ما الحيلة إذا ماتت الدهشة لدي الناس؟ ما العمل إذا كف الناس عن الذهول؟.. لن يستطيع أحد أن يقول للناس ما لا يعرفون.. لا توجد نكتة تضحك الناس.. وعندما تقول أول كلمة في النكتة ستجد عشرات يكملونها لك.. وستجد عشرات يقولون لك: قديمة.. ولن يضحك أحد.. زمان كان يمكن أن يموت الناس “علي روحهم” من الضحك بكلمة.. الكلمة كانت تبكي الناس والكلمة كانت تضحكهم.. والكلمة كانت “تدوخ” أي فتاة أو شاب.. الكلمة كانت تبني أسرة.. وكانت تهدم أسرة.. وكان الرجل “يتربط” من لسانه.. واليوم لا يتربط من أي حتة غير “بطنه وفرجه”.. لم يعد للكلمة أي تأثير لذلك دالت دولة الشعر.. وألف قصيدة حب لا تحرك شعرة في رأس امرأة ولا رجل.. وألف أغنية وطنية لا تحشد الجماهير ولا تشعل ثورة.. وهناك محاولات مستميتة لاضحاكنا “بالزغزغة” والكلام الخارج والإفيهات الجنسية.. هناك ضربات متلاحقة فوق رءوسنا لنضحك.. وضربات أخري لنبكي.. لكننا لا نضحك ولا نبكي.
* * * *
وأما صديقي عماد سعيد حزين فقد بلغ به اليأس مداه حتي قال: “خلينا في حالنا” ودعك من العرب والقدس وفلسطين.. ولا أدري ما هو حالنا إن لم يكن العرب والقدس وفلسطين قلب ولب حالنا وجرحنا وعذابنا.. كما أن صديقي عماد حمل حملة شعواء علي بني أمية ونسب إلي الوليد بن عبدالملك انه مزق المصحف وقال: فإذا أتيت ربك يوم حشر.. فقل يا رب مزقني الوليد.. وهذا كلام فيه نظر.. فقد نسبت هذه الواقعة في التاريخ إلي الوليد بن يزيد وليس الوليد بن عبدالملك.. ومع ذلك فإنني أقرأ التاريخ العربي كله بحذر شديد وأري فيه أكاذيب فظيعة.. لأننا نقرأ تاريخنا الذي كتبه غيرنا.. وآفة العرب انهم لم يكتبوا تاريخهم ولم يرسموا حدودهم.. ولا يعرفون الألف من كوز الذرة.. آفة العرب انهم يأكلون ما يطبخ غيرهم.. ويلبسون ما يفصله الأجنبي.. ويقرأون ما كتبه الأجنبي.. ويتصارعون علي حدود رسمها الأجنبي.. وينفذون أجندة وضعها الأجنبي.. العرب قوم بلا إرادة وينفذون إرادات الأجنبي.. والعرب يحاربون بعضهم بالوكالة عن الأجنبي.. وأسوأ من ذلك أن أحد الساسة العرب قال لي ان العرب في اجتماعاتهم علي أي مستوي يتوجسون من بعضهم.. وكل منهم يري أن الآخر عين عليه وانه قد ينقل ما قاله إلي أمريكا.. لذلك يقولون كلاما باهتا لا معني له.. ويصدرون بيانات مائعة.